كان الأهالي ينتظرون قدوم "المندوب"، والخيول، ليأخذوا روثها، ويجففونه، قبل أن يغسلوه ويخرجوا منه التبن لصناعة الخبز، هذا ما عاشه آباء الغزيين وأجدادهم من مجاعة مرّ عليها عقود.
وليست جريمة التجويع التي ترتكبها "إسرائيل" بحق سكان قطاع غزة، سوى عودًا على بَدءْ، لما مارسته عصاباتها بحق الفلسطنيين بسنوات النكبة، ومن قبلها عناصر الانتداب البريطاني.
ولأنها اعتادت النهج، تكرر "إسرائيل" اليوم ذات الجريمة، إبادة وحصار وتجويع، كان جنودها وعصاباتها قد ارتكبوها قبل عقود، بشهادات حية وأخرى موثقة بأرشيف النكبة الفلسطينية عام 1948.
وتكشف وكالة "صفا"، عن جزء من جرائم التجويع التي كانت تمارس بحق الفلسطينيين، أيام النكبة، بطرق ووسائل أكثر تطورًا في البشاعة.
وتمر ذكرى 77 عاما على النكبة بعد أيام، في وقت يتعرض أهالي قطاع غزة لنكبة جديدة، بفعل حرب الإبادة والمجاعة، المستمرة منذ أكتوبر عام 2023.
دقيق من تبن الخيول
وتنقل السبعينية فتحية أبو شاب لوكالة "صفا"، رواية والدتها التي عاشت أحداث النكبة، "الجوع الذي نحن فيه، يُذكرني بما عاشته أمي من مجاعة أيام عصابات اليهود والإنجليز، أيام كانوا في غزة".
وتروي "كانت تمر الشهور دون أن يسمحوا للطعام بالوصول للناس، حاصرونا، وأغلقوا علينا القرى بغزة، ولم نكن نأكل إلا حينما يأتي المندوب".
ومن بشاعة ما عاشته، أن "النساء كانوا من شدة الجوع وانعدام الطحين، ينتظرن قدوم خيول المندوب ومعاونيه، ويأخذن روثها ويجففنه، ويتم نخل التبن منه، ثم يغسلونه مرة ثانية، ويتم تجفيفه وطحنه على اليد وتحويله لطحين وخبزه ليسدوا جوع الأطفال".
وتهز رأسها بحسرة "واليوم نأكل الخبز المجفف والعفن، ونعجن الحبوب، ياما شفنا وعشنا مجاعة وقتل".
بين الطنطورة وغزة
وإبان النكبة، كانت مأساة قرية "حصان الطنطورة" بأراضي عام 48 المهجرة، مثالًا لما تعيشه غزة من تجويع وابادة وتمثيل بالشهداء وجثامينهم.
فبعد تهجير العصابات الاسرائيلية لسكان قرية الطنطورة، تم تشكيل فرق من الجنود لحراستها ومنع الأهالي من العودة، وفي أثناء ذلك، مارسوا الوحشية والإبادة والتجويع فيمن تبقى داخلها، رواها صحفي وجنود كانوا داخل القرية.
ويقول شهود عيان لوكالة "صفا" إن الجنود أخفوا ما بقي من جثث الشهداء، الذين أعدموا والتي كانت مبعثرة بين البيوت وداخلها، وقد تحولت البلدة، بعد المجزرة والتهجير لثكنة عسكرية لا يتم الدخول ولا الخروج منها إلا بأمر عسكري.
ويضيف "كان في القرية مصور يدعى بانو روتنبرغ، قدم من ألمانيا إلى فلسطين في الثلاثينات، ووثق أحداث الابادة والمجاعة في الطنطورة بنفسه".
طعام حول الجثث فقط
ومن المشاهد البشعة، أن جنود الاحتلال كانوا يأمرون شباب الطنطورة العزل ليقفوا بجانب الحائط ومن ثم يطلقون النار عليهم, ثم يقدمون الطعام والشراب للأهالي الجوعى، أثناء ذلك فقط.
ويروي الشهود "كان الأطفال يصرخون بصوت عال من شدة الجوع والعطش، ومن حرقتها تتوجه النساء للجنود، وتتوسل إليه أن يسمح لها بدخول بيتها لجمع الخبز والماء، فيرفضون ويضربونهن بأعقاب البنادق".
وفي إحدى أيام حصار الطنطورة، سمح جنود الاحتلال لطفل اسمه عمر مصطفى "13 عاما"، بالذهاب لإحضار الخبز والماء من بيتهم، وأثناء عودته قاطعه قائد الفرقة، وحاول إهانته بوجود المصور الألماني، وحينما اعترض الطفل، ضربه أحد الجنود بالبندقية على رأسه ففقد وعيه".
وحسب الشهود الذين عايشوا أحداث القرية، فإن "الطفل نُقل لبيتهم وبعد ساعات استفاق على كومة من الجثامين حوله، بينهم والده وشقيقه".
وبقي الأهالي تحت الحصار لأشهر، وتم إعدام عدد منهم، ممن حاولوا المجازفة لإحضار الطعام للأطفال والنساء.
ذات الإبادة والنهب
ويقول المختص بالكشف عن ملفات مجازر الاحتلال من أرشيف النكبة، جهاد أبو ريا لوكالة "صفا"، إن ما تشهده غزة، هو عود على بدء، لما مارسته العصابات الصهيونية في الأربعينات والخمسينات، وحتى من قبل بفترة الانتداب.
ويضيف أن "ما شهدته الطنطورة، تكرار ما نشهده اليوم، حتى من ناحية عصابات السرقة التي تنهب قوت الغزيين اليوم، فقد نهبتها عصابات مستوطنة "زخرون يعكوب".
ويفيد بأن تلك العصابات كانت "تنظر بعين الحسد إلى أهل الطنطورة، واستثمرت عليهم الأرض الخصبة ومزروعاتهم، وبيوتهم، خاصة أنها كانت تسمى لؤلؤة البحر".
ولذلك-يكمل أبو ريا- أنهم هرعوا إلى البيوت فور تهجير السكان، وسلبوا مخازن المحاصيل والطعام، والبيوت والأموال والذهب.
ويؤكد، أن الجنود كانوا يمارسون عمليات السرقة، وسط رائحة الموت المنبعثة من جثث الشهداء والقبور الجماعية، وظل هذا المشهد حتى تم إصدار أمر عسكري يلزم الجنود بنقل ما تبقى من الغنائم إلى مركز تخزين خاص للاحتلال، في أطراف البلدة.
ومن العصابات التي كانت تمارس الإبادة والتجويع للقرية، عصابة "الكسندروني".
ممارسات الجنود تتكرر
وتمامًا كما يحدث بغزة، فبعد نحو أسبوعين من احتلال الطنطورة، حضر إلى المكان ممثل شركة هخشرات هييشوف، وهي شركة صهيونية وظيفتها توطين القادمين الجدد اليهود، ويدعى "حاييم جافتي" من كيبوتس "جيفت"، في منطقة مرج ابن عامر، وكانت مهمته فحص إمكانية توطين اليهود في البلدة، وتوزيع خيراتها من محاصيل وبهائم وأراض بين الكيبوتسات القريبة.
وكانت الطنطورة، التي هُجرت عن بكرة أبيها، كـ"موراج" التي تفصل رفح وخانيونس، والتي سواها جيش الاحتلال بالأرض منذ استئناف حرب الإبادة في 18 مارس المنصرم.
وحسب أبو ريا، فقد عرفت البلدة بالخصبة التي تنتج مئة وخمسين كيلوغرام من القمح للدونم الواحد، وببيوتها الجميلة، والتي كانت أفضل بكثير من الخيام التي زودها الجيش للمستوطنين، وهو ما جعل الاحتلال يقيم ال 15 ألف دونم التي تعود ملكيتها للأهالي فيها، بين الكيبوتسات المختلفة.
ويعاني أهالي قطاع غزة من مجاعة متفشية، نتيجة استمرار إغلاق المعابر وتشديد الحصار من قبل "اسرائيل"، ومنع إدخال المساعدات الإنسانية والوقود منذ شهرين ونصف، مع العلم أن القطاع عانى من هذه الأزمة لأكثر من عام، قبل اتفاق وقف إطلاق النار بيناير المنصرم، الذي انقلبت عليه.
واشتدت المجاعة مع إعلان برنامج الأغذية العالمي، ووكالة الغوث "أونروا" نفاد مخزون الدقيق، ليدخل القطاع مرحلة شديدة الخطورة من المجاعة، التي راح ضحيتها ما يزيد عن 72 شهيدًا.
وبدعم أمريكي، ترتكب "إسرائيل" منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 إبادة جماعية بغزة خلفت أكثر من 171 ألف شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 14 ألف مفقود.